عارف تامر- نقلاً من مجلة الصفر / العدد 26 (يونيو 1988م)
درس الحكمة والفقة والرياضيات وعلم الفلك. أسس مرصد مراغة ، وطوّر في الاسطرلاب، وكان « أفضل عصره في العلوم العقليَّة » ، إلى أن لقِّب أستاذ الحكماء ، ذلك هو نصير الدين الطوسي. الكتابة عن الفيلسوف والفلكي نصير الدين الطوسي تبدو شيقة ومفيدة، خاصة أن هذا العالِم العبقري لم ينصفه التاريخ ، ولم يقم الباحثون بتحديد دوره العلمي والسياسي، وإظهاره على حقيقته، أو إعطائه ما يستحق من التقدير. فهناك فترات زمنية من عصره، ووقائع مهمة في حياته، أغفلها أو تغافل عنها المؤرخون. وهناك أيضاً جوانب في فلسفته وعلومه ما زالت مجهولة وبعيدة عن الإحاطة والدرس. أما القضايا المطروحة على بساط البحث فأكثرها لا تمثل الحقيقة التي ننشدها، ويكاد العقل المدرك يكفر بها.
محمد بن محمد بن الحسن ، وكان يكنَّى بأبي جعفر ، وينسب إلى طوس أو إلى جهرود، وهي من أعمال طوس. ولد في الحادي عشر من جمادي الأول، العام 597هـ . وهناك مصدر يذكر أنه ولد العام 607هـ. درس على والده الذي كان له اعتبار خاص لدى العلماء، وعلى خاله « الحكيم فاضل بابا أفضل الطاشي » الذي وصف انه من كبار الفلاسفة. في مرحلة النمو يبدو الغموض واضحاً، والمصادر لم تذكر عنه إلا القليل، ولكن من المتفق عليه انه عندما بلغ الخامسة عشرة من عمره، ظهرت عنده دلائل الرغبة في متابعة تحصيل المعارف والعلوم، فانتقل إلى نيسابور، حيث انتسب إلى مدرستها التي كان لها الفضل في تخريج نخبة من الرياضيين والفلاسفة في ذلك الزمان، أمثال : الفلكي الشهير الحسن بن الصبَّاح ،والشاعر الفيلسوف عمر الخيَّام ، والوزير نظام الملك وغيرهم.
أمضى الطوسي ستة أعوام في نيسابور ، إلى أن تمَّ اجتياح المغول الأول للأقطار الإسلامية العام 619هـ. كخوارزم، وسمرقند، ونجارى، ونيسابور أخيراً وتؤكد المصادر أن النصير كان واحداً من الأربعمئة شخص الذين كتب لهم النجاة في نيسابور. بعد هذا الحدث المؤلم ، لجأ إلى طوس حيث عكف على الدرس والتأليف، ثم لازم معين الدين المصري، فدرس عليه الحكمة والفقه والرياضيات وعلم الفلك. وفي تلك الفترة ذاعت شهرته في كل مكان، فأقبل عليه الناس والطلاَّب ينهلون من علمه ، ويعبون من معينه. ويبدو أن شهرته وصلت إلى أسماع ناصر الدين عبد الرحيم بن أبي منصور حاكم قوهستان الاسماعيلي، فوجَّه إليه دعوة لزيارته فلبَّى الطلب. ومن اللقاء الأول أعجب به، ثم أقنعه بالإقامة في كنفه، بعد أن تعهد له بتأمين مطالبه في ما يختص بالتأليف والتحصيل والتخصيص.
وتضيف المصادر أن الإمام علاء الدين، حاكم دولة ألَموت الإسماعيلية، طلب لخدمته بعد أن سمع عنه، وعهد إليه داعي الدعاة فظَّل قائماً بهذه المهمة قرابة ثلاثين عاماً، خلالها مات علاء الدين وتسلَّم الحكم بعده ولده ركن الدين الذي قتل هو وأسرته اثر اجتياح هولاكو لبلاده. وقد شهد نصير الدين ذلك ، كما شهد اجتياح بغداد ومقتل الخليفة العباسي المستعصم ( 656هـ ) وكان قد أصبح وزيراً ومستشاراً أولا.
قال عنه ابن شاكر الكتبي :« انه فيلسوف» ؛ وقال ابن المطهَّر الحلي : « كان أفضل عصره في العلوم العقلية »؛ وسمَّاه آغا بزرك« أستاذ الحكماء والمتكلَّمين ، وأفضل الحكماء والمتكلمين ، وحجة« الفرقة الناجية » ؛ وقال عنه الحرانَّي « أفضل المتأخرين » ؛ وذهب بعضهم إلى القول : انه تجاوز أعمال سابقيه من الفلاسفة الكبار ، أمثال : الفارابي ، وابن رشد ، وابن سينا ، وقال الدكتور علي اكبر فياض : إن نصير الدين الطوسي من اكبر المشتغلين في العلوم العقلية بعد ابن سينا . وقال عنه جورج سارتون Georges Sarton: « انه أعظم علماء الإسلام – ومن أكبر رياضيهم » ؛ واعتبره بروكلمان Brocklmann: أشهر علماء القرن السابع ، وأشهر مؤلفيه على الإطلاق. وقد نقل القمي عن ابن المطهِّر قوله : « كان النصير اشرف من شاهدناه في الأخلاق ، وقد يكون للدور السياسي الكبير الذي كان يضطلع فيه بعد فتح المغول لبغداد اكبر الأثر في ترك الآثار للناس عن شخصيته الكبرى وسلوكه مع أعدائه وأصدقائه ».
وذكر مؤيد الدين العرضي عنه في مقدمة كتابه « شرح آلات مرصد مراغة وأدواته». فقال : « بإشارة مولانا المعظم والإمام الأعظم العالم الفاضل المحقق الكامل قدوة العلماء وسيد الحكماء وأفضل علماء الإسلاميين والمتقدمين ». وقال عنه ابن كثير واصفاً إياه بالعقل والفضل وكرم الخلق. وهكذا فعل القوطي. وممَّا يدل على سمو أخلاقه وفضله أنه بعد مقتل الخليفة العباسي المستعصم من قبل هولاكو، أخذ أحد أولاده المسمَّى مبارك وجعله في كنفه وتحت رعايته، ثم نقله بعد ذلك إلى مراغة حيث أمّن له العيش الرغيد، و ذُكر أنه زوَّجه حتى أنجب ولدين. وهكذا فعل عند مقتل إمام دولة ألموت الإسماعيلية ركن الدين، فانه أنقذ احد أولاد شمس الدين وأخفاه عن التتر في إحدى الجهات الآمنة، ثم نقله بعد ذلك إلى قونية حيث عاش آمناً.
ولا بد من القول أن نصير الدين الطوسي قبل دعوة هولاكو للالتحاق به، هادفاً من ذلك انقاد ما يمكن إنقاده من دولة ألمَوت الاسماعيلية. وبعد ذلك نراه يتوصل في بغداد إلى استثناء المسيحيين والشيعة والغرباء من الاستباحة، ثم فرض حماية على العلماء ورجال الفكر والدين« ينابيع المعرفة ». وقد يكون من العسير جداً دراسة عناصر المعرفة عند الطوسي، إلاَّ على ضوء جدول تفصيلي تظهر فيه الموضوعات والفروع والأصول.
1- العلوم العقلية والفلسفية : ويتفرع منها الأمور العامة ، والجواهر والأعراض واثبات الصانع المبدع « واجب الواجب » وصفاته ، والنبؤة، والإمامة ، ومعرفة العوالم ، والمبدأ والمعاد ، والتربية والخلاق .
2- العلوم الكلامية: ويتفرع منها السياسة والمنطق.
3- العلوم الصوفية : ويتفرع منها الهندسة والجبر والرياضيات والمثلثات والفيزياء.
4- العلوم الدينية : ويتفرع منها الفقه وأصول الفقه والحديث والتفسير والتأويل.
5- العلوم الفلكية : ويتفرع منها النجوم والأفلاك والبروج والرصد والزيج والتنجيم والتقديم والاسطرلاب.
6- العلوم الإنسانية : ويتفرع منها التاريخ والشعر والموسيقى والفنون والتربية والجغرافيا.
7- العلوم الطبيعية : ويتفرع منها الطب والجواهر والكيمياء.
وانه لمن العسر أيضا التحدث عن كافة الجوانب المتصلة بهذا الجدول، فهذه مهمة جمعية علمية تتولى توزيع الأعمال والمهمات على الاختصاصيين مع التصنيف والتعبير. مرصد واسطرلاب ممَّا لا مجال للريبة فيه، أن نصير الدين الطوسي زرع في ذهن هولاكو فكرة إغراء واستحضار العلماء من كل مكان إلى مراغة للمساعدة في إقامة « مرصدها الفلكي » . وكان الطوسي، لكي يؤسس ذلك المرصد ويطبعه باسمه، أقام « مجمعاً علمياً » اعتبر الأول في العالم الإسلامي وجعله على غرار المجامع اليونانية « Academie ». وكان قد قضى اثني عشر عاماً في العمل حتى جاء كما أراد له هو وأعضاء مجمعه وتلامذته. وقد شرح العرضي آلات مرضد مراغة ، كما أن النصير وضع كتاباً عن هذا الموضوع سمَّاه « الزيج الايلخاني » ، وهو كتاب له أهمية كبرى ، بحيث ظلّ إلى عهد قريب معتمداً في الدراسات الفلكية في أوروبا .
وعندما نتعرض إلى الجانب الفلكي من مؤلفات الطوسي، نجد أن معرفته امتدت حتى وصلت إلى الأعمال الفلكية اليونانية وان تحريره لكتاب بطليموس Potelemaus يعتبر أقدم كتاب عرفناه من كتب الفلكيين اليونانيين في علم الهيئة ، وأول كتاب دوّن كل فروع علم الفلك القديم وقد نقل إلى العربية وأصبح المرجع الأكبر لهذا العلم.
ويذهب جورج سارتون Georges Sarton إلى القول أن نقد الطوسي لكتاب المجسطي يدل على عبقرية وطول باع في الفلك. فالطوسي أقام نظريته البديلة لنظرية بطليموس في نظام الكون، عندما وضع كتابه الآخر « التذكرة في علم الهيئة » على أساس من التحرير النقدي لكتاب المجسطي، ففي كتاب « التذكرة » الذي نال إعجاب العلماء وعنايتهم بالشروح والتعليق لما لمؤلفه من الشهرة الواسعة في علم الفلك، استطاع الطوسي أن يبيّن النظريات الفلكية العديدة، وان يضعها في شكل صعب، وهذا هو السبب في الشروح الكثيرة التي وضعها علماء العرب والمسلمين، كما أنه أنتقد فيه كتاب المجسطي واقترح نظاماً للكون أبسط من النظام الذي وضعه بطليموس، ولذلك أدخل فيه حجوم بعض الكواكب وأبعادها.
اشتهر نصير الدين الطوسي في عمله للاسطرلاب، وتأليفه جملة كتب عن طرق إعداده، أهمها « عشرون باباً في معرفة الاسطرلاب ». وإذا كان الطوسي قد اهتمّ بعمل الاسطرلاب فلكونه كان عالم فلك من جهة. ومن جهة أخرى فلكي يعمل بالتنجيم. بعد هذا التفريق بين عمله الفلكي البحت وعمله التنجيمي، فان آلة الاسطرلاب قد لازمت العلماء الفلكيين والمنجمين على السواء، فشاع مصطلح الاسطرلاب للدلالة على خاصية النجوم كما كان يسميها الإغريق، وهي آلة فلكية يقاس بها ارتفاع الشمس والنجوم، وبها كان الأقدمون يعرفون مواقع الكواكب وكل ما يتصل بالشؤون الفلكية الكونية، ومنها معرفة ساعات الليل والنهار وظواهر الفصول والخسوف والكسوف إلخ ...
وقد كشف الطوسي عن أهمية الاسطرلاب، وعرّف كيفية العمل فيه وأنواعه، كالمسطح، والحطي، والاهليلجي، والمستطيل، ومن الجدير بالذكر أنه بيّن طرق الإفادة منه وطوّره وأعطاه القيمة العلمية التي يستحقها وخاصة في مرصد مراغة. وفي الختام ، أن الحديث عن ابن الطوسي يحتاج إلى كتب ومجلدات ، إذ شئنا إنصافه .
مراجع :
« تاريخ الفلسفة الاسلامية » ـ هنري كوربان ـ بيروت 1966 .
« مؤلفات ابن سينا » ـ جورج قنواتي ـ القاهرة 1950 .
« اخلاق ناصري » ـ لاهور ـ الهند ـ 1952 .
« الفيلسوف نصير الدين الطوسي » ـ عبد الامير الاعسم ـ بيروت ـ 1980 .
« تاريخ الفلسفة في الاسلام » ـ ترجمة ابو ريده ـ القاهرة ـ 1948 .
« الذريعة إلى تصانيف الشيعة » ـ اغابزرك ـ طهران ـ 1965 .
Arberry – Avicenna ou theogogie London – 1951
B rockelmann – Geschiet HTE des arbisehen Leiden – 1937
Goichon – Liures des directives et remarques D’IBNS inna Paris – 1951
Minorski – Nassir Adin Tusi – B.S.O.A.S. Lonson – 1942
Sarton – Introduction totheHistory of Science Baltimore – 1948
Strottmann. Tusi Encycio of Islam .
Ivanow. Alamut – 1959
Corbin ( art ) ishraq. Ency : of Islam